الأربعاء، 7 مارس 2012

رمضان في رحاب الحرمين الشريفين #9


أجمل اللحظات 
حالة المسجد الحرام خلال صلاة الفجر حالة اسثنائية ، يمتلئ المسجد عن آخره وكنت دائما احاول ان اصلي تحت الاسقف لاتمكن من رؤية الكعبة وانا جالسة ، لان النساء "يطردن" من الصحن (حول الكعبة) لما يحين موعد الصلاة ، ما اجمل ذلك المنظر الرهيب وكل الوجوه متجهة نحو نفس المكان تصلي لرب العالمين راغبة في رحمته وحبه ، تسمع اصوات العصافير تغرد وهي تتطاير حول الكعبة والصمت يعم المكان خلال سجود رباني عظيم ، وصوت الامام يخترق القلوب وهو يتلو آيات من الذكر الحكيم ، ما اقل القلوب التي لا تخشع اذ ذاك رغم الزحام الشديد والثلاثين درجة المئوية ، هنالك معجزة ربانية يقذف بها عالم الغيب في القلوب لولاها لسمعت الناس تتخاصم بالشتائم والكلام البذيء كما تفعل في بلادها داخل الحافلة والسوق وكلما كثر البشر داخل مكان ضيق ! ان ما ينزله الله من سكينة وطمأنينة على ذلك المكان لاكبر دليل على رحمة الله الواسعة.
وهناك اشياء اخرى كثيرة ابهرتني هناك ، منها الافطارات الجماعية الرائعة ،والتلاوة العذبة لقراء مكة مثل الشيخ المعيقلي والسديس والشريم وغيرهم ، وكون المتاجر كلها تغلق في اوقات الصلاة ، ومرور جثث الموتى بين المصلين ، بحيث كنا نصلي صلاة الجنازة عقب كل صلاة ، فكانت تدخل الجثث من ابواب السجد ويصفونها بجانب يقاع امام منصة الامام يراها الناس وهم يطوفون وكم مرة وانا اطوف بالكعبة شهدت ذلك المنظر المهيب ، والجثث مصفوفة على الارض فاتذكر هادم اللذات وادعو الله حسن الخاتمة...ولا انسى يوم صليت الفجر وانا خارجة ، دخلت في زحمة متجهة نحو الباب الرئيسي الاول فاذا بي احس بالزحمة تضيق اكثر فاكثر فلما رفعت رأسي مرت امامي جثة طفل صغير يحلمونه والامام السديس يتقدمهم ليصطحبوه لمثواه الاخير ، رحمهم الله 
جميعا ورحمنا يوم يحملوننا على الاكتاف.

انبهرت ايضا لاشياء لم اكن اتوقعها ، واقصد استعراض قوة رهيب من طرف اصحاب الاجساد الضعيفة أي الشيوخ والعجائز... طبعا الامر لا يشمل الجميع ، لكني فعلا انبهرت من بعضهم تكاد لا تدرك اهو مسن ام شاب صغير في العشرينات ! 
الدين واحد : الاسلام. الاركان نفسها ، لكن طريقة ممارسة العبادات الربانية تكاد تختلف من شخص لآخر فالركوع وحده رأيت منه اشكالا والوانا، بين الراكع الذي يكاد يمسك رجليه والراكع الذي يحني ظهره بشكل خفيف كأنه يلقي نظرة على رجليه والراكع الذي بين ذا وذاك. والامر نفسه  يقع في السجود مثلا ، فالبعض يسجد جسده كله على الارض فتكون مساحة سجوده مربعة والبعض لا يفتئ يلمس الارض حتى ينهض بسرعة لكن ومع كل هذا الاختلاف الواضح فالمضمون ان الصلاة في الحرم المكي يعزها جميع المسلمين في العالم بأسره وان طالب الامر مكابدة شقاء السفر ومعاناة ايجاد اماكن خالية ومواجهة بعض المعاملات الفضة من السعوديين والجو الحار في مكة والتلوث الخطير في شوارعها.
ولعل اكثر شيء يلتصق بالاذهان لما يعود الانسان من زيارة لذلك المكان هو عبارة " الطريق الطريق" والتي لها مفعول عجيــــــــــب هناك ، يكفي ان تنطق بها ليفسح لك الناس الطريق مثل كلمة "بلاك" داخل السوق في اڭادير ^^ 
اما السجادة في مكة فلها معنى آخر غير المعروف عند العامة اي انها ليست فقط ليصلى عليها بل هي وسيلة لترسيخ الحدود الشخصية مع الآخر وتسهيل حجز المكان ! 
مما ابهرني ايضا حضور احد مشايخ السلفية المصريين الكبار ذات جمعة داخل المسجد الحرام داخلا بين الناس ولو ان وجوده خلق شيئا من البلبلة تفاجئت بها عند خروجي من باب الملك عبد العزيز حيث رأيت الشيخ محمد حسين يعقوب وهو طويل القامة وحوله زحمة من الناس يبتغون صورة معه، وكان ذلك خلال يوم الجمعة الثاني عشر من رمضان ، التي حضرت فيه خطبة موضوعها "القرآن ، فضله وآدابه" ، كانت قصيرة نسبيا مقارنة مع العادة لكن محتواها جيد جدا ومفهومة تماما للناطقين بالعربية اما الاعجميون فموضوع آخر.

الحرم بين صلاة الظهر وصلاة العصر مزيج بين صراخ وضحكات اطفال يلعبون هنا وهناك وبينهما يندس صوت شخير بعض من غرق في سبات عميق وهناك من يحتسي آيات من القرآن العظيم مصارعا غفلات النوم وموجة الحرارة القاسية بكؤوس من الماء ينثرها على وجهه وملابسه يبللها لعلها تبرد بعضا من الوقت، ويستمر الاسنتظار هنا والضوضاء ايضا حتى يؤذن الامام للصلاة.
بين الظهر والعصر ايضا يصدح صوت المكنسة الكهربائية الذي دون شك هو كابوس النائمين فهو يعلن لهم حضوره من بعيد جاعلا نومتهم العميقة في خطر داهم حيث تمر عاملات وعاملوا النظافة على كل الزرابي للتنظيف وبموجب ذلك فهم يوقظون النائمين والنائمات.
وفي ليلة السابع والعشرين من رمضان تختنق الممرات بالمصلين والوافدين الجدد ، ففي ذلك اليوم بالذات يبدو ان هناك عادة او عرفا يحمل الناس لأداء العمرة في تلك الليلة ، فقد رأيت مجموعات كبيرة من الحشود القاصدين بيت الله الحرام للعمرة ، وقد امتلئ شارع اجياد عن آخره وامتلئ كل شبر داخل وخارج المسجد ، ولم يعد موضع قدم واحد خاليا !  وبعد هدوء نسبي رجعت الامور لحالها يوما واحدا ثم ما كادت ليلة ختم القرآن تحين حتى رجع الاكتضاض والزحمة ، كان الجميع يريد ان يحضر تلك الليلة بالذات، لكن الزحمة انفضت مباشرة بعد الختمة. 
كان ماراتون تلك الأيام الاخيرة جبارا عظيما بعد شهر من الروحانية والدموع السجود ، كان الجهد باديا على الاجساد، لكن فورة الايمان وهو طازج كافية لتحمل الجسد على الصبر والاصطبار على ما مسه من ارهاق ، وما اجمل رقة العيد وهو يعلن في ذلك المكان بعد تسع وعشرين يوما من السعادة الفريدة الوجود !

تكبيرات العيد وهي تعلو داخل الحرم المكي تصَّعد للسماء تحملها الملائكة لرب الناس
 والملائكة والسماء والارضين ، زحمة وابتسامة تظهر على وجوه المصلين : الاطفال يرتدون ملابس العيد وفي الشارع باعة يبيعون النفاخات الهوائية وبعض الخرداوات وخطبة عن التفاؤل هي خير ختام نختتم بها هذا الشهر الذي يبث الأمل في شرايين هذي الامة يهديها لبارئها ، التفاؤول الرضى بما قسم الله لنا ، رسالة هذا الدين الذي فيه كل الخير لنا.
مع فرحة العيد امتزج حزن الفراق الذي دنا اجله ، فحل موعد الصلاة الاخيرة والطواف الاخير الى ان يكتب للقاء ان يكون من جديد، ازدانت القلوب بأطلال هذه الذكريات وفارقت الاجساد اطهر البقاع وامتلئت العيون بالدمع من شوق صار يضني ذاكرة التصقت بجدرانها ريح مكة وطيبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق