الثلاثاء، 28 مايو 2013

الدين بين المد والجزر

فأما الملحدون فصاروا بيننا في كل مكان، وفي الواجهة الأخرى هناك المتدينون وبينهما شريحة هي الأكبر أسميهم "الباحثون عن الطريق" فهم ليسوا مشككين قابلين للرفض التام للدين وليسوا كذلك مقتنعين بكامل حيثيات الدين وعندهم توجس حيال بعض النقاط، وحتى الذي هم به مقتنعون فعندهم صعوبة فاضحة في نقله من القلب إلى الواقع، هم مؤمنون ولكن...
وهي ظاهرة لها أسباب عديدة طبيعية من أولها احتكاكهم بالطرفين الأولين : فالملحدون يجادلون فيما يجهله هؤلاء وذلك يثير التساؤلات عندهم، والمتدينون غالبهم يثير الرهبة في نفوس هؤلاء، يخافون من غلوهم وغلظتهم ولا يرون فيهم تلك الصورة التي يحتاجونها في الدين
وطبعاً هناك أسباب أخرى كثيرة تختلف من فرد لآخر، تحوم كلها حول الرؤية التي يمتلكها الإنسان عن الحياة وكمية الإرادة التي يستطيع أن يربطها بفكرة في ذاته وليس فقط بهدف يضعه نصب عينيه، يعني تلك القدرة على تغيير أسلوب الحياة بشكل تام
ليتماشى مع ما نؤمن به في كل صغيرة وكبيرة 
هؤلاء الأشخاص من أكثر من يتفهمون حال الملحدين وقد يصبحوا منهم يوماً ما إذا شاءت الظروف، ولكنهم في نفس الوقت يدركون أن الموضوع ليس بالبساطة التي يراها الملحدون، هناك أشياء لا تظهر من النظرة الأولى بل وقد لا تظهر من ألف نظرة حتى يسلط عليها الضوء من الجهة الصحيحة، والأصح يرتاح له البال أسمى ارتياح ،ذلك هو المعيار.
وهؤلاء الأشخاص من أكثر الناس انتقاداً للمتدينين، ينظرون إليهم من الواجهة ، تلك التي تزعجهم إذ ليسوا مقتنعين بها، فالحجاب النسائي لا يرضيهم بكل هيئاته ولا اللحى الغزيرة ترضي أذواقهم الخاصة ولا بعض المعاملات الظاهرة ترضيهم بالضبط لأنها ظاهرة جداً ويتم تلخيص الدين فيها أحياناً فيصبح محبوساً في مساحة ضيقة لا تليق بمستوى الدين الذي أصله أن يرتقي بالإنسان أعلى من اعتبارات ساذجة وبديهية 
فالدين إذن عندهم معاملات  طيبة وكرامة وعزة نفس وامتداد للخير في كل جوانب الحياة، ومن هنا يأتي انعدام الأخذ بالاعتبار لجانب العبادات والفقه والعقيدة فلا يبقى سوى تطبيق عملي للمادة الدسمة التي جاءها بها الدين كرسالة دون أن يكون هناك شروط تقيمه وترسم له حدود الطريق فالغاية من العبادات عامة خلق الصلة مع الخالق ليكون الإنسان مرتبطا بحبل النجاة دوماً أبداً كل يوم وكل لحظة، وتلك العلاقة هي أيضا من أحد عوامل التقييم لكل ذات بشرية، فالحساب في الأخير لابد منه ولا هروب منه، والتغافل عن ذلك انخداع لا يجوز، لا يجوز من حيث يكون الإنسان يكذب على نفسه ويراضيها وهي تلوم وتلوم، وأما العقيدة فهي منبع كل شيء ، هي الحكم الفصل الذي يحتويه قول الله سبحان وتعالى (لكم دينكم ولنا دين)، ومن المفروض على كل إنسان قبل أن يخوض في الدين معاملات وعبادات أن يعرف أصول الدين كاملة ، فما المطلوب منا ومن ربنا وكيف نعرف ربنا قبل أن نعبده
ألسنا نتعرف على الناس وأذواقهم وما يحبون وما يكرهون وكيف يفكرون قبل أن نربط معهم علاقات إنسانية محكمة فلا نجبرهم على ما يكرهون ونهديهم ما يحبون؟! 
أوليس ربنا بأحق أن نعرفه لكي نحبه ونعرف كيف نسلك سبيل مرضاته ونبلغ عنده المقام الذي نريد
هي علاقة حب بالنهاية، وليس التقييم ويوم الحساب نقيضا لفكرة الحب، فأكثر من يراقبون تصرفاتك ويعاتبونك على ما تفعل أو تقول ويعاقبونك حين تخطئ هم الأقرب إلى قلبك، الذين يحبونك بصدق ولا يريدون لك سوى الخير كله.
وأما الفقه فهو كل ما يجول بين الحلال والحرام وهو عنوان التساؤلات التي تثقل ظهر الشخص المتذبذب بين الحق والباطل،فهو لا يقتنع بسهولة ويحتاج لأكثر من دليل، وعندما تكون المسألة مرتبطة بجوهر حياته يصعب عليه تقبل الآراء التي لا تناسبه وخصوصا عندما تكون مبنية على أقوال وتفاسير رجال أي بشر ولو كانوا علماء فهي تبقى مسائل ليس عندها دليل قاطع من كتاب سماوي أو كلمة ربانية واضحة
الدين رحمة 
أجل، الدين لم يأتي ليعسر الحياة على الإنسان، تلك حقيقة لا ينكرها إلا جاهل، ولو كان الدين من صنع إنسان لكان شديدا لا يطيقه أحد، ولكنه من عند أرحم الراحمين، ولو يعلم الناس كم إن الله رؤوف بهم وليس على وجه المعمورة ولا في السماوات السبع من هو أرحم منه بهم، لو يعلمون للجؤوا إليه مدعنين، ويحضرني معنى حديث كنت قد قرأته ذات يوم معناه أن لو قارنا بين رحمة الله ووجه من أوجه الرحمة التي نعرفها جميعا وهو رحمة الأم بطفلها فما يكون ذلك من رحمة الله يساوي إلا جزيئا قليلا جداً وُهبنا منه لنعلم قدر رحمة من لا نعبد سواه، سبحانه ما أرحمه.
لكنّما يقول قائل إن هذا الدين ليس فيه سوى تخويف وأوامر ونذير بعذاب وليس فيه رحمة، وخصوصا بعد أن يستلمه الإنسان فيتشدد فيه ويتاجر به يستعمله لذاته، فهناك المتدينون وهناك المستهلكون...
أقول إن فلسفة الرحمة لا تعني بالضرورة انعدام الحزم وضبط السلوك المنحرف بالشدة حين يبلغ السيل الزبى، فالأم تعاقب الطفل الذي يسيء بصرامة ولا يقول الناس إنها تكرهه! الرحمة ليست التعاطف وتطييب الخاطر، الرحمة أوسع من ذلك بكثير، الرحمة لا يملكها سوى من لديه بصيرة يميز بها ما هو جيد ولو بعد أمد ،عما هو سيء ولو بدا جيداً، فالأم تعرف جيدا أن طفلها إذا أكثر وأكثر من أكل الشكولاطة والحلويات سيعود ذلك سلبا عليه فتمنعها عنه وهو لا يدرك لأنه ببساطة يعتقد أن لا خطر عليه، وأنها لذيذة المذاق، بعبارة أخرى رحمة الدين في أنه يبين لنا ما هو أسهل علينا لنعيش حياة كريمة بمستوى راق دون أن نشعر أننا مرغمون، لأننا نعلم يقينا أنه أرحم طريق نسلكه ولو سلكنا غيره فقد نسعد بداية ودون شك سوف يأتي علينا زمن ندرك فيه أن الطريق مسدودة أو معبدة، فالدين رحمة إذن هي عبارة نقولها ما لا تقول غالبا، ونفرضها على تلك الفئة من الناس "المتشددين" كأننا نقول الدين أسهل مما تفعلون، وهذا وجه من الاستهلاك أيضا، مما لا يعني أن التشدد هو الدين، أعتقد أن المتشددين أنواع، منهم الذي يختار دوماً أعسر ما هو ممكن فيجهد نفسه مقتنعاً وذلك حقه فربما يكون الله راضيا عنه، ومنهم الذي يتشدد مع الناس وهذا هو الباطل برأيي، فأسلوب التشديد قد يكون ناجعا مع بعض الناس لكنه ليس نافعا لكل فرد، والشدة قد تنفر النفوس من الدين للأسف، خصوصا أولئك الذين لا يحبون الأوامر ويقومون غالبا بعكس ما هو مطلوب منهم فهؤلاء يحتاجون اللين والرفق وإحكام العقل بأسلوب الإقناع المحمدي، بذكاء وفطنة.
إننا نفتقد الدعاة، وأتحدث عنا كبشر عاديين في حياتنا اليومية، ولا أقصد دعاة التلفزيون والمحاضرات، نفتقد أسلوب المعاملة مع الآخر على أنه إنسان له طريقة تفكير خاصة لو أردنا نصحه أو استقطابه لفكرة لوجب علينا التعامل معه حسب منطق فكره، فلا نخيفه بما سيعتبره شدة ولا نهينه بما سيعتبره استعلاءً، ولا نجبره بما سيعتبره إزعاجاً، لابد من وزن الأمور حسب الحالة وحتى نصل لذلك المستوى، من المؤكد أن البداية من قلوبنا لابد أن تكون صافية تجاه الناس حولنا، لا مكان للظنون السيئة في قلب إنسان مؤمن حريص متيقظ، لا مكان للكبر لا عند الناصح ولا المنصوح، القلوب الصافية مستعدة لتقبل كل الآراء، أليس الرسول من أسمعوه أسوء ما يقال ولم يتخذ منهم موقفا ودعاهم وقبل منهم التائبين؟ صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة والسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق