الخميس، 27 مايو 2010

الحلقة السابعة : رحلة الضفتين



بدأ الموسم الدراسي الجديد و"س" لم تلحق بزملائها داخل الصف ، كانت في رحلة وداع ، هي واسرتها بعد ان تأكد الموعد وحجزوا أماكنهم داخل الحافلة المتجهة لباريس.
في ظرف عشرين يوما تقريبا قامت بزيارة كل أقربائها تقريبا ، البعيد والقريب ، الصغير والكبير ؛ سقطت دمعة هنا واخرى هناك ، كثر الحديث وطالت العناقات الحميمية والنظرات التائهة بين تجاعيد الملامح الغالية والوقت كان يمضي...
في الأيام الأخيرة جمع الأثاث وأغلقت الغرف ، ألغي الهاتف وحزمت الأمتعة ولم يتبقى سوى أشباح ذكريات سكنت زوايا المنزل. وقبل الرحيل خرجت "س" مع صديقاتها للمرة الأخيرة لنزهة قصيرة كانت شبه عادية ، لم يذكر فيها موضوع الرحيل إلا قليلا ! "س" كانت تتفادى ذلك وكأن الموضوع مجرد خبر غريب مختلف لكن ليس ذا أهمية كبيرة (...) ، حتى أنها لحظة الفراق كأنها لم تدرك فعلا ما يحدث : اكتفت بكلمات خفيفة خالية من أي مشاعر تقريبا في غير محلها...إلا أن احدى صديقاتها انتبهت لذلك فاقتربت منها وقالت :" إنه وداع يا "س" ...غدا لن نلتقي كما نحن اليوم ." ثم احتضنتها بقوة.
في صباح اليوم الموالي ، كان الكل منشغلا بالتجهيزات الأخيرة بما فيهم "س" التي وبعد ان جمعت كل أغراضها دخلت إلى الحمام لتنعزل قليلا عن الآخرين ، نظرت الى وجهها داخل المرآة وفجأة بدأت تبكي من كل أعماقها ، بكت كثيرا وكثيرا ، ثم غسلت وجهها ولحقت باسرتها كأن شيئا لم يكن .
على الساعة العاشرة ، يصل احد الأقرباء الذي كان سيصطحبهم إلى المحطة ، والذي كان وعائلته الصغيرة من احب الناس إلى قلب "س" ، تتذكر جيدا انه يوم علم بخبر الرحيل قال جملة ترسخت في ذاكرة "س" وهي جملة كان قد قالها فرنسي قبل سنوات في يوم وداع آخر :
"les bons partent et les mauvais restent" *
يدخل الجميع داخل السيارة ، تجلس "س" قرب النافذة ، تلقي نظرة اخيرة على الدار قبل أن تنطلق السيارة لتعبر شوارع الحي ثم تبتعد شيئا فشيئا ، حينئذ تشعر "س" بانقباض شديد وعيناها تودعان بدموع حارة تلك الأماكن ، كأن جوارحها أدركت أيضا معنى الوداع.

ومن مدينة أكادير تنطلق الرحلة في جو خريفي جميل ، اغلب ركاب الحافلة هم من الشيوخ والمسنين المعتادين على مثل هذه الرحلات بين المغرب وفرنسا . الرحلة طويلة جدا وتستغرق ثلاث أيام تقريبا ،الوقفة الأولى كانت بمدينة مراكش لإجراء بعض الفحوصات التقنية للحافلة ، ومن هناك تستمر الرحلة بشكل عادي جدا ؛ تتوقف الحافلة في أوقات معينة فيخرج المسافرون ليتمشوا قليلا داخل باحات الاستراحة أو ليتناولوا وجبة يشترونها من احد المطاعم او ليؤدوا صلاة حان وقتها ثم يتواصل السفر إلى غاية مدينة الدار البيضاء ، حيث ينزل بعض المسافرين او ينضم آخرون الى الرحلة التي تستمر إلى غاية مدينة طنجة هناك تستبدل الحافلة بالباخرة التي تعبر البحر الابيض المتوسط ، عشرون دقيقة تقريبا قبل الوصول الى الديار الإسبانية وبالضبط الى ميناء الخزيرات.

أتناء عملية العبور هذه تتطور العلاقات بين المسافرين بشكل تلقائي خصوصا عند الإجراءات القان
ونية حيث يتعاونون فيما بينهم (او يتخاصمون أحيانا...) وأيضا داخل المطاعم والمقاهي الإسبانية حيث الناطقون باللغة الإسبانية يترجمون للآخرين ليسهل التواصل . وتتذكر "س" شخصية تمركز اهتمام المسافرين عليها أثناء عبور التراب الإسباني ويتعلق الأمر برجل كبير في الخمسينات من عمره ، كانت تبدو من تقاسيم وجهه حكمة وعلم واسع لم يتردد في مشاركته مع الآخرين ، فبعد أن بادر جيرانه في الكلام وتأكد من وجود أذن صاغية ، باشر في حديثه عن كيفية التيمم أولا وعن الصلاة خلال السفر وعن أشياء اخرى مفيدة للمسافرين ككل ، وقد استأنس الجميع بحديثه وحاوروه كثيرا وحين انقطعت الأسئلة واصل الكلام حيث بدأ يحكي قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام ، كانت طريقته في السرد رائعة حقا وشدت إليه انتباه الجميع داخل الحافلة ، والروعة كانت أيضا في شخصية ذلك الرجل الذي فعلا احبه الجميع لبشاشته الدائمة وتواضعه العظيم رغم شساعة علمه.

في اليوم الثالث والأخير من الرحلة تصل الحافلة اخيرا إلى الحدود الفرنسية ، تبدأ درجات الحرارة بالتقلص شيئا فشيئا بعد ان كانت أصلا منخفضة جدا في مرحلة ما بعد مدريد و
خاصة عند جبال "البيريني" !
بعد المرور على مدينة "بوردو" يستعد بعض المسافرين للوصول الذي اصبح قريبا جدا، بعد سويعات قليلة تصل "س" اخيرا إلى باريس.

(*) : يذهب الطيبون ويبقى الطالحون

هناك تعليقان (2):

  1. حلقة هذه المرة رائعة بوجهة شخصية وضع الموسيقى كخلفية لكن تبقى وجهة نضري O_o (الثلاثي جبران موسيقاهم رائعة ^^)
    يذهب الطيبون ويبقى الطالحون لم أفهم مقصدها لكن سأفهما مع الأيام أعتقد
    تحياتي

    ردحذف
  2. الموسيقى لغة الروح نفهمها كلنا دون ان نكون قد درسناها من قبل ربما لذلك اعجبك المقال :)
    شكرا على الوفاء !

    ردحذف