الجمعة، 7 مايو 2010

الحلقة الثالثة : ادغال السين


سور كبير مبني بالطين، له ابواب عدة ، يدخل منها الداخلون ويخرج منها الخارجون وهم يصطدمون فيما بينهم ويتزاحمون، وكل ذلك بشكل عادي جدا، لا يدهش له سوى الغرباء عن المكان. داخل السور اعداد هائلة من البشر ،تمشي بعفوية في كل الاتجاهات ، اصوات عنيفة تجرح اذن السائح الغير المتعود على مثل تلك الضوضاء الغريبة ، روائح زكية تداعب انف الزوار والوان مختلفة ومتدعددة تمتع الابصار التائهة داخل ادغال السوق.هكذا سيصفه لك ذلك الزائر المتعود على المحلات الكبرى والعصرية ، اما "س" وهي التي كانت ترافق امها الى السوق مرة في الاسبوع فرؤيتها مختلفة ، بالنسبة لها ولساكنة مدينة اكادير: السوق هو قلب المدينة!

سوق اكادير هو المكان الذي يباع فيه كل شيئ الا السمك، فهناك تجد ركنا خاصا بالفواكه والخضر ، وركنا للملابس والاحذية والاواني وكل ما يخص حاجيات المنزل ، وتجد ايضا ركنا خاصا بكل ما يتعلق بالخشب وركنا للزرابي وركنا مختصا في كل ما هو تقليدي ، هذا الركن الاخير كأنه مخص
ص للسياح الاجانب الذين يعجبهم اقتناء الاواني الخزفية المزركشة كتذكار مثلا ، اما اهل المدينة فيمرون هناك مرور الكرام ، بخطوات سريعة تتجه نحو الاصوات التي تنادي هناك من بعيد ، اصوات تهتف بأثمنة مثالية في نغمة مثيرة للانتباه ، واصوات تمتدح السلع المعروضة بواسطة شعارات كأنها ابيات شعرية واصوات اخرى ذات نبرة غاضبة تشير اليك بإخواء الطريق امام العربات ، وبين الفينة والاخرى تخطف ذراعك يد طفل او "شبح طفل" يريد ان ينتزع منك بضع دراهم مقابل كيس بلاستيكي او ربما مقابل استخدام عضلاته لحمل اثقال سلة الخضر مكانك . تتذكر "س" انها كانت وامها لا تحتملان ذلك الاصرار والعناد الذي يظهره اولئك الصبية ؛ حتى ان امها اجابت على احدهم ذات مرة بطريقة اضحكت الجميع ، فقد اقترحت عليه ان تحمله على ظهرها ان هو تعب من المشي ، اما السلة فلا حاجة لها بمساعدة في حملها ! والحقيقة ان السلة كانت تزداد ثقلا بالفعل لكن "س" وامها تعرفان حلا افضل لمواجهة هذا الاشكال ، فقد كانت لهما صداقة وثيقة باحد الباعة ، غير بعيد عن الباب الرئيسي للسوق ، وكان دائما بعد ان يبيع لهما رزمة من النعناع يقبل ان يبقي السلة عنده ويحتفظ بها الى ان تعودا لاسترجاعها بعد اكمال دورتهما الاسبوعية داخل ادغال السوق.

"
س" بطبعها الخجول لم تكن تلعب سوى دور ثانوي في حلقة السوق هاته، لكن حضورها فيه كان يجعلها تشعر بإعجاب كبير وهي تراقب امها الرائعة اثناء تلك الحوارات الشيقة بين البائع والمشتري والتي من خلالها يتقلص الثمن الى اقصى حد! كثيرا ما كانت "س" تتساءل حينها هل ستشبه امها يوما في تلك الصرامة والعزيمة في اتخاذ القرارات وايضا في قدرتها العجيبة على تحمل المسؤولية دون تردد.

"س" تمتلك حسا دقيقا في الملاحظة ، كثرة سكوتها خصوصا داخل السوق كان
ت تمكنها من التمعن بدقة في كل ما يدور حولها ، فتحاول فهم ما يجري دون ان تسأل ، ورغم صغر سنها فقد كانت لديها قدرة قوية على فهم العديد من الرموز. وقد كانت تلاحظ آنذاك ظاهرة اصبحت تنتشر بشكل كبير وهي تخص بعض الباعة الذين انتشروا في كل زاوية من زوايا السوق . لهم شكل خارجي موحد تقريبا ، فكلهم يرتدون زيا اسلاميا معروفا ووجوههم جادة تزينها لحية سوداء مشعبة وكذلك بضاعتهم واحدة ، فكلهم يبيعون كتبا دينية وشرائط دينية واحيانا ملابس اسلامية ايضا، وقد تفطن بوجودهم من بعيد فغالبا تعلو من دكاكينهم اصوات تلاوات عبد الرحمن السديس او عبد الباسط عبد الصمد او غيرهم من كبار المقرئين. "س" لم يكن يشغل بالها انتشار هؤلاء الباعة ، فقد كانت لا ترى في ذلك عيبا ، لكنها ذات يوم ادركت سخافة هذه الظاهرة التي لا عمق لها ، كلها مظاهر على مظاهر! في ذلك اليوم كانت واقفة مع امها امام دكان للملابس وفجأة ظهر صاحب الدكان امامهما ليعتذر لهما ولباقي النسوة لانه سيغلق دكانه بعضا من الوقت حتى يتمكن من اداء صلاة العصر ، وفعلا اغلق دكانه وارتدى جلبابه وذهب للمسجد المجاور للسوق ، بينما في نفس الوقت كان هنالك دكان بجانبه ظل مفتوحا والبائع الملتحي واقفا داخله يبيع الكتب الدينية(...).




هناك تعليقان (2):

  1. جيد و أنتضر الحلقة الأخرى
    أما من جانب أخر كما قلتي كلها مضاهر على مضاهر وذكرتني في مثل "زواق تبيع" هههه

    ردحذف