لو سألت أي إنسان عن أهم الركائز في حياته والتي لا يستطيع أن يعيش بعيدا عنها لوجدته يذكر لك ثلة من الأشخاص المقربين له سواء قرابة دم أو قرابة إنسانية صنعتها عشرة السنين، وبعد ذلك مباشرة سيتكلم عن أشياء محيطة به سواء مادية أو روحية متعلقة بالظرف والمكان، وكلنا بشر نتعلق بالناس ونتعلق بأشيائنا وما تعودنا على رؤيته والتنعم بريحته ونحس أننا لا نكون فعلا نحن بمعنى الكلمة إلا ونحن في ذلك المحيط بالذات بكل مكوناته عموماً.
وبعد هذه المقدمة التي لا يختلف عليها ذوو عقل، فلندخل في صلب الموضوع ولنتصور جميعاً أن أحدا يتهجم عليك بكل طغيان ودون أدنى حق، فيقتل أقربائك وأحبابك ثم يقرر أن يقتلعك من محيطك أي من بيتك، و حيك و مدينتك بل وبلدك كله، فيطردك خارج الحدود ويهجرك غصبا عنك، ويدمر كل أشيائك ويمسح كل أثرك ويستولي على ذلك كله ويرميك خارجا بلا مأوى و بلا حماية، ويصعقك بقوله "هذه أرضي وليست أرضك"
تصور هذا كله، واعتبر أن كل هذا يحصل معك ولا أحد يهب لمساعدتك وأن لا حول لك ولا قوة، مجروح البدن والروح، مسلوب الحق والأرض والأهل والممتلكات، تزحف من موطنك باحثا عن أرض أخرى تأويك لعلك تهدأ فتفكر فيما يحدث معك، فتستفيق من صدمتك...تلك هي النكبة!
هكذا أصورها من منظور إنساني بحث دون الدخول في تفاصيل الواقعة ومعناها السياسي والديني، فقط ليدرك كل ذي عقل ما الذي حصل ببساطة ويستشعر قمة الوجع قبل أن تعمي بصيرته الصورة الحالية والتي تجردت عند الكثيرين من أصل الحكاية وأولوها بما لا صلة له بالموضوع البتة، وصاروا يجرمون الضحية ويتآمرون على المدافع عنها ويرتدون عذر الدفاع عن النفس بوقاحة لا منتهية..!
بالنسبة لي فلسطين تعني الكثير دينيا وتاريخيا وكجزء من كيان أعتبر نفسي خلية منه، ولكن كإنسانة فالفلسطيني المهجر أخي، وأعتقد أني مقربة إليه بحكم روابط تجربة اغتراب أستطيع من خلالها تذوق جزء من مرارة ما عاشه ويعيشه الفلسطيني المبعد عن دياره قهراً، فكوني مغتربة عن بلدي الأم أعرف تماما ما يعنيه أن تعيش مدة مطولة بعيداً عن كل ما تحبه وتشتهي أن ترجع إليه أكثر من أي شيء آخر، وتشعر بكيانك يتسمم من حر ذلك الشوق الدفين، تحاول أن تتعايش مع حاضرك الذي فرض عليك طبعاً، لكن الدمعة لا تزال عالقة بعينك كلما ذكرت بلادك على مسمعك، تفرح كلما لقيت مهجرا آخر مثلك كأن وجوده يخيل إليك أنك لست وحدك في محيط ليس يشبهك وأنك معه قد تسترجع شيئا ولو قليلا مما تحن إليه، وفي داخلك يزيد الألم كلما زاد يكبر عدد السنين التي تمضي على النكبة ولا شيء يتغير، ولا أمل يزور أفق مبتغاك الأول والأخير، ثم دون أن تستسلم لأن ذلك ليس أبدا من شيمك ولأنك على كل حال لن تكون أسعد لو سلمت الأمر لما هو عليه، فتحاول أن تبقي الذكرى في أذهان الجيل الجديد الذي لم يعرف فلسطين إلا فيك وأيضا في كل مساحات الإنسانية التي تستقبل كلمتك كبرهان خالد عن أكبر جريمة إنسانية ارتكبت منذ عقود ولا زال مرتكبوها في سلام آمنين لا من يسائلهم ولا من يحاسبهم.. بل إنهم لا زالوا يجرمون والله يرى ويشهد، ولن يسلم ظالم من عقاب ولو بعد حين.
وفي الأخير لا يغيب عن بال مسلم أن فلسطين ليست كأي أرض، ومكانتها عند كل مؤمن بعقيدة الإسلام لا تسمو إليها تلك التي يدعيها غاصبوها وأهلها أحق بها من قوم لا يقيمون العدل ويحسبون أنفسهم ملوك الأرض، فالقضية كما يعلم كل ذي حكمة لم تكن يوماً قضية سياسة ولو شبه لذلك، وإنما هي قضية عقيدة فالذي لا يتواضع لله وينشر جبروته في الأرض ولا هو يقيم شرع الله ولا هو يستقيم لقوانين بشرية ويستعلي بنفسه فوق كل شيء، لا عجب أن يكون كاذبا مفسدا لا ذي حق كما يدعي، والتاريخ لن ينسى فهنا فقط مجرد...تذكير، فقط لا أكثر، والكل يعلم لكن لعل البعض ينسى.
وعلى سبيل الحب لا ننسى فإن مواجعنا ما عادت ترثي فلسطين وحدها، إن قلب حضارة الإسلام كلها معلول من بغداد إلى الشام وأرض الكنانة، عجل الله لنا بالفرج.